En virkelighet uten nærkontakt

Publisert den 21. mai 2020

Suzanne Ibrahim, syrisk poet, journalist og forfatter, har skrevet en artikkel til Litteraturhuset i Trondheim hvor hun deler sine ord og tanker om koronapandemien og hvordan vi kan bruke språk og litteratur som en inspirerende ressurs for håp, og veien videre.

Suzanne er en kjent syrisk poet, journalist og forfatter. Hun har utgitt fire novellesamlinger og tre diktsamlinger på arabisk og har skrevet mange artikler om kultur, menneskelige relasjoner og kvinners rettigheter. Ett år etter at hun ankom Östersund som byens fribyforfatter, ga hun ut dagboken sin, När vinden exploderar mot min hud: Dagbok från Damaskus (Teg Publishing. 2019).

Foto: Sandra Lee Pettersson

عالمٌ حقيقيٌ لكن دون لمس!

سوزان إبراهيمكاتبة سورية مقيمة في السويد

نحنُ ما نعتاد عليه, فالعقل البشري خاضع للتنميط والاعتياد, وهكذا تأتي معرفتنا دوماً ناقصة لأن ثمة جوانب كثيرة لم نفكر بها. التفكير خارج الصندوق هو ما نعيشه الآن نتيجة ما أحدثه فيروس كورونا من تغييرات جذرية في حياتنا اليومية المعتادة والتي لم نكن لنفكر يوماً بأنها ستتخذ هذا الاتجاه!

وفقاً لنظرية «البجعة السوداء» يأتي حدث ما من خارج السياق النمطي ليُحدث تغييراً دراماتيكياً, والكورونا هو البجعة السوداء, الحدث العرضي غير المتوقع الذي دفع بالعالم كله إلى نقطة حرجة ومصيرية, تُسمى نقطة الانحراف أو اللاعودة.

في ظل الحجر الصحي الذي خضع له العالم كله بنسب متباينة, ألفينا أنفسنا نناقش ما كان بديهيات في الحياة, وصارت مفردات مثل: المسافة, السفر, المكان, العزلة, الآخر, التواصل, والاحتكاك موضع شك ومصدر خوف وكانت كلها قبل الكورونا مسلماتٍ ومصدرَ أمان ومشاعر إنسانية عزيزة علينا.

كنا دوماً منشغلين بما يدور في العالم الخارجي, وفجأة وجدنا أنفسنا محشورين في المكان أمام مرايا ذواتنا نواجه أنفسنا والآخر المقيم معنا, والذي كنا بالكاد نلتقي به فعلياً على مستوى التواصل الإنساني والاجتماعي. لم يفرض فيروس كورونا العزلة علينا كما نتخيل, فنحن منعزلون قبله بفعل وسائل التواصل الاجتماعي, في البيت الواحد وفي الغرفة الواحدة التي قد تجتمع فيها الأسرة ينشغل كل واحد ب«موبايله» وصداقاته الافتراضية, نحن منعزلون نفسياً والآن كرّس الفيروس هذه العزلة مكانياً أو جعلنا نواجه ما كنا نتجاهله.

ولأن الفيروس أصاب الإنسان, ولأن الإنسان هو موّلد كل حركة وفعل على هذه الأرض فقد امتد التأثير ليشمل كل فعاليات الحياة وعلى كل المستويات بحيث يمكن وصف فيروس كورونا بأنه «مجموعة كوارث متضافرة في كارثة واحدة«.

ماذا بعد الكورونا؟

رغم التقدم العلمي الهائل والسريع مازالت البشرية غير قادرة على الانتقال إلى مكان جديد (كوكب جديد, مجرة جديدة) حتى الآن على الأقل, وهذا ما ستفعله لاحقاً. يبدو أن خلقَ معنى جديد لها بات ضرورة ملحّة. عبر تاريخنا الحديث كان الانتقال من عصر إلى آخر, أي خَلقُ معنى جديد يسم العصر, يأتي نتيجة لأزمة عالمية خطيرة, فهل سيخلق «الكورونا» المعنى الجديد المراد للحضارة الإنسانية؟ تتردد عبارة «زمن ما بعد الكورونا» أو «عالم ما بعد الكورونا» بشكل كبير وعبر مستويات معرفية عدة, فكيف سيكون العالم حقاً بعد الكورونا!

في الأزمات الكبرى, كأزمة فيروس كورونا, تُضطر الدول والمجتمعات والجماعات لاتخاذ تدابير وإجراءات وقائية آنية كاستجابة سريعة للتأقلم مع الظرف الطارئ, لكن سرعان ما تغدو هذه الإجراءات جزءً أساسياً يحمل صفة الديمومة في المستقبل. مثل هذه التدابير الطارئة هي عملياً ما يحرك مقود التاريخ ويدفعه في اتجاه ما, إنها كلمة السر التي تفتح باب المستقبل! القرارات التي كنا سنحتاج سنوات من النقاش والخطط لتنفيذها, نظراً لخطورتها على إيقاع حياتنا المعتاد, اتُّخذت بغض النظر عن النتائج. الأزمات الكبرى هي صانعة التغيير الحقيقي, وغالبية البشر لا تقبل التغيير إلا تحت شرط الاضطرار. بموجب الإجراءات الاحترازية الطارئة استحدثت الدول أو الحكومات أو أصحاب القرار في العالم التغيير المطلوب. وفّر فيروس كورونا الغطاء والمبرر اللازم, وما كنا نراه خطَراً مرفوضاً لما له من أثر على حريات الناس, صار ضرورةً للنجاة وحماية للحياة, وأعني التباعد بين الناس وانحسار مدى الحريات.

أعتقد أن العالم لن يعود إلى ما كان عليه قبل هذه الأزمة, ولا أرى أن كل ما خلّفه الفيروس على مناحي الحياة كان سلبياً. بطبيعتي وبعد تلقي الصدمة الأولى أفكر في المنافع والإيجابيات الناتجة عن وضع سيء وسلبي.

ككاتبة فضّلت غالباً العزلة, وكنت أسميها دوماً «العزلة المُنتجة» وهي الوقت الذي يعيش فيه الكاتب حياته وحيوات أشخاص آخرين مُتخَيلين فيعيش عدة طبقات من الحياة, كأن العزلة رحم ولودٌ لكل جديد.

لم أواجه عزلتي النسبية, باعتبار أن السويد اتخذت الحد الأدنى من الحجر الصحي, بعصبية أو ضيق, الطقس هنا أيضاً قد يفرض عزلته الخاصة, بل رحت أفكر في المسافة المتاحة لي بين النافذة والجدار, والمسافة الإضافية التي يتيحها لي النظر عبر النافذة إلى نوافذ الجيران والشرفات المقابلة لي. راقبت الأضواء وألوان الستائر والأطياف المتحركة أحياناً, وكنت أحس عندما يقوم شخص ما بإسدال الأباجورات الخشبية أو المعدنية بأنه قام بقص المسافة الجديدة التي اخترعتها في خيالي لتوسيع مدى الرؤية وتمديد حدود المكان الضيق.

في ظل الكورونا توقفت النشاطات والفعاليات الثقافية والمهرجانات وألغيت كثير من الارتباطات, بينما فكر البعض بإيجاد بدائل, وهذا ما قاد إلى الملتقيات في المساحة الافتراضية التي توفرها الشبكة العنكبوتية. أعتقد أن مثل هذه البدائل ستكون الخيار الأكثر شعبية مستقبلاً لما توفره من نفقات تعود بالفائدة على المنظمين وعلى البيئة والتغير المناخي الحاد عبر تقليص الرحلات الجوية والسفر وكل ما له علاقة بإقامة فعالية ثقافية, وهذا لن يسد الفجوة الاجتماعية وحميمية اللقاء بالآخرين وتبادل الآراء والنقاشات والأفكار وجهاً لوجه.

ماذا لو فكرنا في الوقت الذي يلزمنا للاستيقاظ مبكراً وتحضير أنفسنا (شاور وملابس جيدة وماكياج للسيدات وربطات عنق جميلة للرجال وعطور وغير ذلك) وقيادة السيارة أو صعود حافلات النقل العامة للذهاب إلى أمكنة العمل! كم من الوقت والمال والجهد سنوفر حين يصبح العمل ممكناً في البيت أو أن نتلقى التعليم والمحاضرات في البيت. ماذا عن الوقت الذي سيفيض عن الحاجة؟ أظننا سنمضي وقتاً أطول لإنجاز العمل المستقبلي المطلوب الذي سيتطلب مهارات أكبر ومؤهلات أدق والباقي بعد ذلك سنصرفه في الرياضة والمشي وبعض الاحتفالات ربما. كيف ستتحول مباني الشركات الضخمة, والمدارس والجامعات والقاعات الكبيرة في كثير من البلدان المتقدمة التي تملك ما يكفي من البنى التحتية الضرورية للانتقال إلى مرحلة التعليم والعمل عن بعد واختراع وظائف جديدة لتلك الأبنية, العيادات الطبية والزيارات العلاجية التي تتطلب استشارات معينة سوف تتوفر لاحقاً عبر الواقع الافتراضي. حياتنا كلها سوف تتغير تدريجياً.

في نظر فيروس كورونا نحن سواسية، لا فروقات في اللون والعرق والجنس والانتماء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي, نحن كتلة موحدة في عين إدراكه! لقد رأى الفيروس ما عجز قادة العالم حتى الآن عن رؤيته. لأول مرة يجتمع العالم في وجه عدو واحد.

لن يعود العالم إلى طبيعته كما كان, وبعضهم تساءل: هل كان العالم قبل الكورونا طبيعياً حقاً! أخشى أننا على عتبة عالم جديد تلعب فيه التكنولوجيا الدور الأكبر والأهم, وقد سبق لبعض النظريات أن بشّرت بعصر ما بعد الإنسانية حيث تزيح الروبوتات الإنسان عن قمة الهرم الوظيفي.

ولأن الأدب مرآة الحياة والمجتمع فلابد أن ينعكس هذا كله على مخيلات الأدباء لينتجوا نصوصاً مغايرة وجديدةً على مستوى اللغة والصورة وربما الوظيفة. استهوتني دوماً هوية «الرحالة» الذي لا ينتمي إلى وطن بعينه, أو ثقافة بعينها. «الرحالة» مسافرٌ مكتشفٌ عابرٌ للغات والجغرافيا والتاريخ, مزيج من أنفاس الكون معكوسةً في كائن متعدد الهويات والانتماءات في سياق هوية إنسانية واحدة. إن كان هذا ما سيؤول إليه حال العالم بعد «الكورونا» فأي بركة حلّت على الأرض والإنسانية!

عالم ما بعد الكورونا سيعطي للافتراض مساحةً أكبر. القارة الجديدة الزرقاء: الفيسبوك وأخواته من وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى, قارة الافتراض قارة بديلة يزداد عدد سكانها كل يوم بمعدلات مرتفعة. الافتراض الذي يتيح لك أن تقابل ال هناك هنا! إنه الزمن والمكان الملتف على نفسه والمتمحور حول هذه اللحظة الزمنية وهذه ال هنا اللحظية التي تصير أرشيفاً على الفيسبوك, في ذاكرته الواسعة والتي قد تنهار في لحظة واحدة وتُمحى ونعود كلنا إلى نقطة الصفر نقطة البداية.

تفرز كل أزمة مفرداتها ولغتها الجديدة التي تأخذ حيزاَ أكبر في اللغة اليومية والتي ستنعكس غالباً على الأدب ولغته, كلمات مثل: الحجر الصحي, التباعد الاجتماعي, الكمامات, المعقّمات, أجهزة التنفس الاصطناعي, الخوف, العدوى, منع التجول,  وغيرها ولكن يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كنا سنشهد ولادة أدب ما بعد الكورونا وبأي شكل وصيغة؟

باعتقادي أن الكورونا مفتاح لعصر ما بعد الإنسانية أو ما بعد النيوليبرالية والتركيز ربما على مفهوم «العيش الجيد» الذي يحاول خلق علاقة متوازنة بين الدولة والسوق والمجتمع بما ينسجم ويتناغم مع الطبيعة.

من هنا سنعيد النظر في كل ما كان بديهيات أو مسلمات ونخترع تعريفات جديدة في ظل الوظائف الجديدة بعد أن أصبحت العزلة أو التباعد الاجتماعي ظاهرة صحيةً. ما هو مصير العلاقات ضمن الأسرة الواحدة؟ كيف سيكون الحب والجنس؟ الأكيد أننا سننظر إلى ما حولنا بعيون جديدة ومن زوايا مختلفة.

لست متشائمة ولكني لست متفائلة أيضاً, لطالما صرخنا بأعلى أصواتنا مطالبين بالحريات: حرية التعبير عن الرأي والتجمع والحقوق المدنية وتشكيل الأحزاب السياسية, صرخنا بوجه الرقابة على الفكر, ولكن ألسنا ندخل شبكة رقابة أكثر تعقيداً في عالم الديجيتال, حيث نقف مكشوفين تماماً فكل خصوصياتنا وحميمياتنا من صور وملفات وتسجيلات صوتية ومرئية مُراقبة وقد تتحول إلى بضاعة للبيع.

الزمن القادم سجن كبير بلا قضبان, زمن العبور من قضبان تعيش داخلنا فكرياً ونفسياً, إلى عالم القضبان الخارجية اللامرئية: السجن الكبير الذي يتراءى لنا مفتوحاً. زمن المزيد من الاستقلالية والإبداع الفردي والانهيار الاجتماعي, زمن ثقافة إقصاء غير المؤهلين للعيش رقمياً في الافتراض. زمن لغته السائدة واستثماراته الأهم هي الأفكار الجديدة.